حتمية إستعادة دور المثقفين للنهوض بالأمة العربية

على مر العصور والازمنة المتعاقبة لعب المثقفون دوراً حيوياً وهاماً في تنوير وتوجيه وقيادة المجتمعات البشرية المختلفة ومنها مجتمعنا العربي، والمثقف هو صوت المواطن المقهور وهو لسان حاله الذي يعبر عن آلامه وآماله وهو لسان المواطنين للتنديد بأي قرار ظالم ومجحف بحق المواطنين والوطن على حد سواء، والمثقف هو المدافع عن حقوق المواطنين المهدورة بكل الوسائل، وهو الملجأ الذي يلجأ إليه الناس بعدما يخيب الرجاء في الحكومة والمعارضة، وهو الملاذ الآمن للجماهير بعد أن تنقطع بهم كل السبل، ولا يجب أن نغفل عن حقيقة واقعنا المزري حيث أن أحوالنا الحالية في مصر والدول العربية ينطبق عليها المثل الشعبي القائل "إن ما إشتكى العيان حاله يبان" بمعنى إن أحوالنا المتردية واضحة لكل ذي عينين،
في الآونة الأخيرة دأبت أنظمة الحكم العربية وحلفائهم من رجال الدين والعسكريين على تهميش دور المثقفين وحصره في مجال واحد فقط ألا وهو الإبداع الأدبي، ففى مصر على سبيل المثال يتم العمل على إسكات المثقفين المطالبين بالديمقراطية والليبرالية كي لا ينتشر الوعي بهذه المفاهيم بين جموع المواطنين البسطاء المغلوبين على أمرهم، والإعلام المصري والعربي الذي يعمل كبوق دعاية في خدمة الأنظمة الحاكمة قام هذا الإعلام بتشويه مفاهيم الديمقراطية والليبرالية بين الجماهير بإستخدام رجال الدين المتعاونين مع الحكام، بالإضافة إلى ذلك فإن انظمة الحكم العربية تقوم بإرغام وإجبار غالبية المثقفين على التخلي عن أدوارهم الأساسية في المجتمع الذي ولدوا وتربوا وترعرعوا داخله ومن ثم تم قطع صلتهم تماماً بالوطن بحيث لا تتجاوز هذه الصلة التواجد المكاني المجرد فقط وبالتالي أصبحت علاقة المثقفين بالمجتمع المصري على سبيل المثال لاتعرف معنى الإنتماء الى تراب الوطن بكل ما يمثله هذا الإنتماء من حقوق وواجبات، وبكل ما يتطلبه هذا الإنتماء من عطاء وتضحيات، وحالياً تجد أن أغلب المثقفين المصريين بصفة خاصة والمثقفين العرب بصفة عامة يتناولون مشاكل المجتمع الإنسانية والأخلاقية والفنية ويتجاهلون تماماً الخوض في مشاكل مجتمعاتهم السياسية والإجتماعية، فقد سمحت لهم الأنظمة العربية بمناقشة الادب والشعر والتاريخ والجغرافيا والعديد من القضايا التنظيرية ومنعتهم الأنظمة العربية من مناقشة القضايا والمشاكل الخطيرة التي تنخر في بنيان مجتمعاتنا العربية، ومن الجلي أنه بينما استطاع المثقفون العرب أن يبدعوا في مجالات الأدب المختلفة إلا إنه مما يؤسف له أن نجدهم قد فشلوا تماماً في تحقيق أي إنجاز فكري يعتد به على المستوى السياسي،
وفي ظل الظروف الراهنة ونظراً لتوغل التكنولوجيا الحديثة في مجتمعاتنا العربية ومنها الإنترنت والقنوات الفضائية التي لا يخلو منهما بيت عربي لذلك إضطرت أنظمتنا العربية للسماح لبعض المثقفين التابعين لها والمؤيدين لقادتها بتجاوز بعض الخطوط الحمراء وأن يخوضوا في بعض مشاكل مجتمعاتنا البائسة ومناقشة التفاصيل الهامشية فقط في هذه المشاكل السياسية والإجتماعية الملحة كمشكلة تهميش دور المرأة ومشكلة الأقليات ومشكلة غياب ثقافة الديمقراطية، لكن الملاحظ أن هذه النوعية من المثقفين يقومون بتسليط الضوء على هذه المشاكل دون التوغل في تحليل أسبابها ودون حتى أن يصدروا أي توصيات بحلول حقيقية لهذه المشاكل، وبكل تأكيد لم يتجرأ هؤلاء المثقفون بأن يطرحوا وجهة نظر مستقلة في هذه المشاكل ولم يعترضوا أو يحتجوا عليها وكذلك لم ينبهوا ويحذروا المواطنين من أخطار هذه المشاكل وبالتالي لم يحرضوا المواطنين ولا الحكام على التصدي لهذه المشاكل وإقتلاعها من جذورها وبتغيير ما هو قائم من فساد وجهل وظلم وممارسات خاطئة، ان المصائب والرزايا التي يعاني منها المواطن والوطن العربي يعود سببها بالدرجة الأولى إلى غياب الديمقراطية وما أحوج مجتمعاتنا إلى برلمان منتخب وإلى أحزاب سياسية مستقلة عن أنظمة الحكم وإلى نقابات مهنية تناقش مشاكل أوطاننا وتحللها من جذورها لتتوصل لحلول نهائية تخلصنا من هذه المشاكل للابد،
تلجأ الأنظمة العربية عادة لوسائل وطرق عديدة للسيطرة على جموع المثقفين أهم هذه الوسائل هي الوصايه على مختلف أشكال الفكر والإعتقاد بغلق الأبواب أمام حرية الرأى والتعبير بمساعدة من بعض الإنتهازيين من رجال الدين الذي تتماهى معهم أنظمتنا العربية، وبهذه الطريقة نجحت الانظمة العربية في إرغام الكثير من المثقفين على الإختيار بين خيارين أحلاهم مر، فإما ان يلجأ المثقف للسكون والتقوقع والإنعزال والإنكفاء على ذاته، أو يستسلم للأمر الواقع بكل مافيه من فساد وأخطاء ومظالم، وإذا ما إختار المثقف الخيار الثاني فإن روحه تتدنس ويبدأ في الركض وراء المنافع الشخصية والمناصب ويبدأ في إحتراف كتابة التقارير في زملاؤه المثقفين وبذلك يضع أقدامه على أول طريق المداهنة والتزلف والنفاق والتسلق والمتاجرة بالشعارات، وكنتيجة حتمية لممارسات الانظمة العربية للسيطرة على المثقفين وتخييرهم بين الموت جوعاً أو التدجين خنوعاً لذلك برزت ظاهرة ما يسمى بالمثقف المراوغ وهو المثقف الذي يحاول إمساك العصا من الوسط محافظاً على شعرة معاوية بينه وبين النظام من جانب وبينه وبين أفراد المجتمع من جانب آخر وهذا النوع من المثقفين لم يتورط فيما تورط فيه المثقفين المدجنين الذين إنتهجوا طريقة وإسلوب المحلل السياسي عبر محاولاتهم المكشوفة بإقناع المجتمع بإختيارات السلطات الحاكمة ومن ثم تحولت جهودهم العقلية من التفكير في قضايا وهموم المجتمع إلى التبرير للدفاع عن نظام الحكم الذي تولى تدجينهم لصالحه، وبغض النظر عن الواقع المزري لحال المثقفين الأحرار في وطننا العربي إلا إن الأمل فيهم لازال قائماً حيث أنه من الواجب عليهم التنبه لأهمية دورهم خاصة المخلصين منهم والذين يحملون داخلهم هاجساً ملحاً بأهمية وحتمية رقي وتطور وتحضر أوطانهم ولن يتأتى لهم تحقيق ذلك إلا بتنوير وتثقيف وتوجيه الجماهير ودفعهم لإستعادة دورهم الأساسي في إدارة شئون المجتمع والتعجيل بإقامة مجتمع الحداثة والدولة العصرية المؤسساتية على أنقاض انظمة الحكم التسلطية والبوليسية والعسكرية والإثنية والقبلية والطائفية والمذهبية التي يرزح تحت نيرها وطننا العربي، والطريق الوحيد لإقامة الدولة المدنية هو بنشر ثقافة الديمقراطية بين أفراد المجتمع مع الأخذ في الإعتبار بأن المواطن العربي البسيط يلجأ عادة لرفض التغيير نظراً لضحالة ثقافته ولإنتشار وتغلغل ثقافة التعصب الديني والطائفي والقبلي داخل مجتمعاتنا العربية، والواجب على المثقفون الأحرار أن يتصدوا لتوعية المواطنين بأهمية الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب وللشعب أي أن السلطة في أيدي جميع فئات الشعب دون أن تستأثر بها طائفة أو فئة أو طبقة وأن الهدف من الديمقراطية هو رعاية مصالح المواطنين بما يعود بالخير والرفاهية على الشعب كله ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية وبتوسيع قاعدة المتعلمين عامة والمثقفين خاصة ومحاربة الجهل والخرافات والنهوض بالمستوى الاقتصادي للمواطنين الفقراء وكفالة العدالة في توزيع موارد الدولة على المواطنين وأيضاً أن يكون لكل مواطن الحق في ممارسة السياسة ومباشرة كافة أمور السيادة المتعلقة بالدولة، وأيضا يجب على المثقفين الأحرار توعية جماهير المواطنين بأن المستفيد من إبقاء الوضع على ما هو عليه هو الأنظمة القمعية المسيطرة على مقاليد الحكم بدعم من المؤسسات الدينية والعسكرية وهذه الأنظمة تلجأ لإستخدام طريقة فرق تسد بتأجيج مشاعر الكراهية والطائفية داخل المجتمعات ولا يتسنى لها النجاح في تنفيذ هذا المخطط إلا بنشر الفقر والجهل بين المواطنين حيث أن هذان العنصران وأعني الفقر والجهل هما وقود ثقافة الكراهية والتعصب، ويجب أن نأخذ في إعتبارنا بإنه في ظل تغييب مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات فإن الدولة الشمولية تعجزعن القيام بدورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومن ثم فإن هذا هو المدخل الذي يمهد لظهور التيارات الإرهابية المتطرفة داخل المجتمع والتي تستفيد من هذا الشرخ وتنجح لبعض الوقت في تحقيق بعض المكاسب متذرعة بأنها تعمل باسم الدين مما يساعد بشكل كبير في تزايد ثقافة الكراهية والطائفية داخل المجتمع، وإذا ما نجحت جموع المثقفين الأحرار في تحريك المياة الراكدة في مجتمعاتنا العربية ودفعت المواطنين للإنضمام للأحزاب السياسية المختلفة وكذلك إنشاء تيارات سياسية مستقلة هدفها المطالبة بإقامة مجتمع مدني عصري والضغط على أنظمة الحكم الحالية بالتظاهر والإضراب فإن هذا سيشجع باقي المواطنين على المطالبة بمزيد من الحريات السياسية وبإحترام حقوق الإنسان وبتفعيل دور المرأة في المجتمع، وعلى المدى القريب ستتحقق بعض هذه المطالب لكن بصورة منقوصة لكن يوجد ضوء ساطع في آخر النفق لأنه مع تزايد ضغوط المواطنين بالتظاهر والإضراب فإن تماسك الدولة الشمولية سيتفكك ومن ثم سيكون النجاح بإقامة نظام حكم مدني ديمقراطي وهذا هو ما يطمح إليه كل المثقفون الأحرار وبالتالي ستتمكن الدول العربية من اللحاق بركب المدنية والتحضر وعلى الله قصد السبيل
حسام السعيد عامر

Share شارك المقال مع أصدقائك :

هناك تعليقان (2):

  1. أبغي أحييك هلى هذا المقال التحليلي الرصين

    ردحذف
  2. غير معرف
    الله يكرمك وتقبل تحيتي ومودتي

    ردحذف

أرشيف المدونة الإلكترونية

Recent Posts

سينما

مشاركة مميزة

من الذي اغتال الرئيس محمد انور السادات؟، هل نظرية المؤامرة حقيقة؟

من الذي اغتال الرئيس محمد انور السادات؟  هل نظرية المؤامرة حقيقة؟ سؤال ربما لم يخطر على بال أغلب المصريين، لأن كلنا نعلم ان من قتل السادات ه...